عودة ريا وسكينة
تأليف د. صلاح البسيونى
ريا وسكينة قاتلتان .. ذاع صيتهما في الجناية رقم 43 لسنة 1921 .. بمدينة الإسكندرية الساحلية .. كأشهر من قتل بلا رحمة .. وفي صمت الحملان .. وحماية الجيران.
وتتوالى السنين .. ليتحول القتل إلى أنواع كثيرة .. وأساليب شهيرة .. ظاهرها الرحمة أو النسمة أو اللمسة أو البسمة أو سوء الفهم .. فمنها رصاصة الرحمة .. ومنها طعنة الغدر .. ومنها القتل الصامت .. ومنها القتل بالكلمة .. بطعن السمعة والنزاهة وشرف الإنسان.
وهذا ما أجادته عصابة ريا وسكينة هذا الزمان .. ولكي تكتمل أركان العصابة .. لابد من وجود الأشخاص المساعدة .. أو السنيدة .. أو الصامتة عن الحق كشيطان أخرس .. أو المؤيدة دائمًا لتلك الأقوال والأفعال بلا جدال .. والعين المراقبة .. أو الناعسة التي أصبحت في غفلة من الزمان بوق الأعلام أو الإعلان .. مبررة لأفعالهم .. تحت مسمى (سوء فهم) .. تتجول بين أهل الحارة هنا وهناك .. تبرر .. وتخدر .. وتنشر الغباء بين الجيران .. والى هنا تكتمل عصابة ريا وسكينة .. ويتخطى نشاطهم الزمان والمكان .. باستعمال أدوات العصر .. وتكنولوجيا نقل الكلام .. فمن همسات مسمومة .. إلى مكالمة مشؤمة .. ومن كلمة عابرة إلى طعنة في الشرف غادرة.
الله سبحانه وتعالى أوصى بصلة الرحم .. والرسول عليه الصلاة السلام أوصى بالجيران .. وعصابة ريا وسكينة اختاروا هدفهم الاثنان .. ومسرح عملياتهم الغادرة .. وطعناتهم المسمومة.
هذا الرجل الذي يتنقل بين بيوت أهل الحارة أستاذًا لأبنائهم وبناتهم سئ السمعة وعينه يندب فيها رصاصة!!
وعم على النوبي الكبير صاحب محل العطارة على ناصية الحارة الذي يتهافت على محله نساء الحارة لشراء احتياجاتهم من التوابل والحبوب متحرش بالنساء!!
والحاج محمد صاحب محل البقالة الكبير في آخر الحارة راجل ضلالي وبيسرق في الميزان والأسعار!!
وصاحب محل الأدوات الكهربائية الموجود في وسط الحارة جاب الفلوس دي كلها منين؟ أكيد كان بيتاجر في الممنوعات!!
والست فوزية بتاعة الليمون والفجل والجرجير إللي بتسرح على أطفال يتامى دي ست غاوية الشحاتة ما تروح تخدم في البيوت بدل شغل الشحاتة بالفجل والجرجير!!
لسانهم زي المبرد بينحت في أجساد الناس وشرفهم وسمعتهم .. بلا هوادة .. ولا رحمة .. أو تردد.
همسة في أذن الست علية .. فاتحه بيتك ليه تكية .. صلة الرحم أيه يا هبله .. دى العين بصاصة .. وتندب فيها رصاصة .. وتلاقي البيت بيولع أو الفلوس زي ما تيجي ترجع .. تدي بأيدك اليمين تلاقي عليكي ألف عين وعين .. الحسد موجود ومكتوب .. والحيطة منه واجب .. لا تروحي للأهل ولا للأقارب .. ولا تدي فلوسك لأي حد في محيطك .. لأن العين مش هتسيبك .. خلينا دايما بعيد .. علشان الحب يزيد .. وبلاش عبط ستات .. وأقفلي بابك عليكي .. وعيشي في تبات ونبات.
غمزة في كتف الست عنايات .. أنتي كل شوية ترجعي بشئ وشوايات .. مش واخده بالك من إللي حواليكي .. بيعدوا الخطوات عليكي .. ويتابعوا اللي بأيديكي .. بلاش تفتحيها علي البحري .. وداري على شمعتك تقيد .. وأقفلي على نفسك بترباس حديد .. خلي بينك وبين الجيران سور .. يخفي عنهم مشترياتك .. وأي حاجه مش لازم كمان تشوفها حماتك .
الكلمات القاتلة تلوكها الألسن .. وتنقلها رنات المحمول .. والمتلقي صامت كشيطان أخرس .. أو مؤيد أعمي القلب والبصيرة .. أو فارغ العقل ووجد فيها حاجته .. والكلمات تطعن هنا وهناك .. وتقطتع في طريقها أجزاء من سمعة وشرف الإنسان .. ولا ننسي دور السيد سوء فهم .. مهللًا للكلمات مع المؤيدين .. متعجبًا مع الصامتين .. أو متصديًا بسوء الفهم مع الرافضين لكلمة السوء .. أو سوء الكلمة وسوء النية .. يحاول أن يضعف من قوة تصديهم للقتلة .. أو يهبط من عزيمتهم في التصدي .. أو يحاول إيقاف تحركهم لكشف افتراءاتهم وسوء نواياهم .. وفى النهاية دوره ينحصر إما في التهليل أو التضليل.
لا تتوقف طعناتهم .. أو كلماتهم .. أو همساتهم المسمومة .. عن التناثر كالشظايا تنال القريب والبعيد .. لا يقف في طريقها حائط .. ولا عائق .. فالمحمول موجود .. والليل ستار .. والهمسات مشروعه .. واللمزات مرغوبة .. والنية الحسنه عنوان الحوار .. وإحنا بنحكي مش بنقول أسرار .. ومش مقصود الغلط !! ختم يلصق على كل طعنة .. والمبررات كثيرة .. والمشهيات في جلسات النميمة أكثر .. وفي النهاية خلينا في حالنا .. ومالناش دعوة بالناس.
فهذا العجوز .. الذي يتنقل بين مدينته الهادرة إلى قريته البعيدة المترامية كل أسبوع .. في زيارات مكوكية عجز عنها أهل الحي لقضاء مهمة خيرية .. أفتاهم فيها .. وشاركهم الحديث عنها .. وتحمل عناء جهلهم أو تجاهلهم لها .. حتى بدأت العجلة في الدوران .. وتحول الحلم إلى خطوات حقيقية في طريقها الى الاكتمال .. تطارده سمومهم في همسات المحمول .. أو لقاءات السموم .. ما أدراكم أنه يعمل الخير .. لعل له فيها مآرب أخري .. عليكم بمتابعته .. أرسلوا مندوبيكم للتحري عن أموالكم .. تابعوه عبر الدروب الجبلية .. والطرق الملتوية .. واتخذوا من أوراق الصبار الشائكة دروعا تخفي نواياكم الخبيثة في خطوات تمثيلية.
يتابع العجوز تحركاتهم .. وتناثر الرمال والغبار حولهم .. وتحركات سرب الغربان فوقهم رؤوسهم .. وهو في رحلاته الدائبة .. يتحمل إجهادها الجسدي في جلد .. وطعنات أفكارهم المسمومة في صبر .. ونظراتهم .. وإشاراتهم .. وهمساتهم .. ولمزاتهم .. التي تتناهي الى أسماعه .. في ابتسامة الصابر على البلاء أو الابتلاء .. لعل الله يزيح الغمة حتى ينتهي من المهمة .. وتنكسر سهامهم المسمومة .. وأقلامهم المشؤمة .. وتخرس ألسنتهم .. ويرتد إليهم كيدهم .. ويتحرك السيد سوء فهم مسرعًا لتبرير خطاياهم .. وتمرير شظاياهم .. وتخدير ضحاياهم .. دون جدوى بعد أن أنكشف سترهم .. وافتضح أمرهم .. بتكرار غباءهم.
ولا تنفك ألسنتهم أن تنطلق من جديد .. وتنثر الأكاذيب .. عبر رنات المحمول .. أو همسات الشفاه عبر التليفون .. أو تناثر الكلمات في لقاء مشئوم .. وإشارات سوداء تتنقل في سواد الليل وظلمته الحالكة حاملة السموم .. ما أدراكم أن هذا الرجل يفعل الخير دون أن يناله نصيب .. لعله في الخفاء يستفيد .. أو لعله ينسب كل الخير لنفسه وينال حظوة مستحقيه .. تابعوه .. لا تتركوه في كذبه ولا تصدقوه.
وعلي الفور تتحرك قوافل الشر .. وتتناثر سهام الغدر بطعنات من هنا وهناك .. لتنال من سمعته ونزاهته وشرفه .. في توالي وتتالي وتتابع عجيب .. تحت ستار أملس كالحرير أو ناعم كجلد الثعبان.
والعجوز في سعيه للخير يعي كلام اللئام .. ويتحمل من سهامهم الآلام .. وكلما أثقلته الطعنات .. تحامل على نفسه وتحمل .. وأستمر في سعيه الدؤب للخير .. لعل الله يكشف سترهم .. ويرد عليهم سهامهم وكيدهم .. وتتوالى تحركات السيد سوء فهم .. لتخدير الضحية .. وتسهيل المهمة .. أو تمييع القضية .. ونشر الغباء بين المتابعين .. وطمس الجريمة عن العيون .. والدفاع عن المجرمين .. وهم في سيرهم يمضغون .. سمعة الأشراف في سهولة مضغ قطعة اللبان .. أو سهولة انسياب سم الثعبان.
طفح الكيل .. وضاق الصدر بأهل الحارة والجيران .. وتحرك العجوز للدفاع عن شرفهم ونزاهتهم وسمعتهم .. وأخذ على عاتقه التصدي لتلك العصابة وكشف سترها ونواياها .. إن لزم الأمر قطع دابرها أو لسانها.
وذاع بين أهل الحارة خبر حرب الشوارع التي لا تهدأ .. بين العجوز وعصابة ريا وسكينه .. حيث فضح سمومهم .. وزيف كلامهم .. وكذب براءة الحملان في إدعاءهم .. وأن القتل بطعنة الشرف والنزاهة أسلوبهم .. وإدعاء سوء الفهم لسان عميلهم.
ويصبح النهار بعد أن مرت ظلمة الليل الحالكة .. وأهل الحارة لا حديث لهم سوى ما اكتشفوه .. من عودة ريا وسكينة في ثوبها الجديد .. وطرازها بعد التجديد .. تمارس القتل في كلمات مسمومة أو مشؤمة .. تنال الإنسان في مقتل وتنهى حياته .. بعد أن تنهي سمعته ونزاهته وشرفه في صمت ... والرياح تنقل همسات المارة بين من يخشى الحديث عنها تجنبًا للدغاتها .. ومن يخشى مواجهتها اتقاءً لشرورها .. ومن يتجنب النظر إليها اتقاء للصدام معها .. ومن يردد كلمات السيد سوء فهم مبررًا أفعالها.
ليظهر العجوز في وسط الشارع مناديًا بأعلى صوت:
يا أهل الحارة يقول الله سبحانه وتعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) .
يا أهل الحارة يقول الله سبحانه وتعالى: (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا).
يا أهل الحارة تعلمنا في صغرنا أن (من أمن العقاب أساء الأدب).
ويتحرك مغادرًا الحارة في صمت .. كما ظهر بها في صمت .. لعل كلماته تجد آذانًا صاغية .. وعقولًا واعية .. وقلوبًا صادقة.. ونفوسًا نقية.. تعي كلمات الله عز وجل ... أو تفهم معنى صرخته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق